فى أحد أيام ديسمبر الباردة, وكعادتها كل صباح, فى السادسة, تنزل لتقف عند أول الشارع فى انتظار الحافلة التى تقلها إلى العمل. تقف متلفحةً بوشاحٍ هندى, مرتدية سترة قرمزية اللون, وتفرك كفيها بقوة من شدة البرد, ومن ثَمَّ ترتفع بنظرها إلى الأعلى لتجد السماء ملبدة بالغيوم, فتضفى عليها إحساسا بالكآبة, وكأن الحياة قد سلِبَت منها.
فكم كانت تكره حين تتغيب الشمس عن الحضور, فذلك وحده كان كفيلا بأن يفسد يومها. ظلت تحدق قليلا فى السماء وكأنما كانت تستجدى الشمس للمجئ, ألا يكفى أن الجو لا يزال متقلبا, فكل يوم هو فى حال, مرة يكون حارا دافئا, واليوم التالى يكون جافا باردا, يكاد أن يشبهه فى كل شئ, ولكن على الأقل فالجو هكذا على الجميع, أما هو, فتقلبات وجهه لا تظهر لأحد إلا لها وحدها.
تنظر إلى ساعتها, وتمتد ببصرها باتجاه الشارع لعلها تلمح الحافلة, ولكن ما من شئ يلوح لها فى الطريق, فتتعجب, فليس من العادة أن تتأخر هكذا, ولكن لا يهم, فقد كانت تحاول أن تحيد بفكرها عنه ولكنها لم تستطع, لتعود وتفكر فيما حدث البارحة.
تعلم جيدا أن ما حدث ليس بالأمر الجلل, وأنه لم يكن عليها أن تلقِ له بالا, ولكنها قد تألمت فى داخلها, ولا تعرف لذلك الألم سببا, ولكن كيف له أن يراها بعد تلك المدة الطويلة, ولا يلقى عليها التحية, وهى تعلم جيدا انه قد رآها وقد تلاقت أعينهما مرات, فى كل مرة كانت تظن أنه سيتقدم نحوها, كان يذهب ليقف مع جمع من الناس لا تعرفهم بحيث لا يتسنى لها حتى فرصة أن تبادر هى بالسلام عليه.
فى تلك الليلة, ظلت لساعات تفكر, هل تلومه على ما فعل, أم تكتفى بتأنيبه, ولكن ماذا تقول له, وحتى لو عرفت جيدا ماذا تقول, بأى حق سوف تقوله, فما الذى يجمع بينهما إذا فيُسوِّل لها أن تعاتبه على فعلٍ كهذا, وماذا إذا لم يفعل ذلك عمدا, وأنه حقا لم يرها كما خُيِّل إليها, فماذا يكون العمل إذَن.
ظلت واقفة هكذا, شريدة الذهن, تُسائل نفسها ما الذى قد دهاها, وكيف لمثل تلك الأشياء أن تشغل تفكيرها, حتى تنبهت إلى صوت آلة التنبيه الصادر عن الحافلة ينبئ بوصولها, وما إن وصلت حتى فُتح الباب, ليظهر من خلفه وجه سائق بسيط يقول لها بابتسامة
- اتفضلى يا أستاذة, معلش اتأخرت عليكى
فتنظر إليه بابتسامةٍ مماثلة لا تعرف مصدرها
-لا ولا يهمك يا عم حسين, أنا مش هروح الشغل انهردة, هاخده أجازة.
-تمت-
-سلمى عبدالوهاب-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق