-لا ولا يهمك يا عم حسين, أنا مش هروح الشغل انهردة, هاخده أجازة.
حياها بابتسامته المعهودة, ومن ثم أغلق باب الحافلة وانطلق.
" أجازة ؟ ", " مش هروح الشغل ؟ "
أخذت تردد تلك الكلمات على مسامعها وهى تعود أدراجها إلى داخل العمارة التى تقطن بها, كان يبدو عليها أنها لم تخطط لذلك, بل فاجأتها نفسها وهى تتفوه بها. تصعد الدرج فى حالة من اللا مبالاة, تحاول أن تجد تفسيرا لما حدث فلا تجد, ولكن يبدو ان عقلها كان فى حاجة إلى الراحة, فنطق عنها قبل أن تفكر فيها حتى.
تقرع باب الشقة, فتفتح والدتها لتتفاجأ
-خير فى إيه ؟ نسيتى حاجة ولا إيه ؟
- لأ !
-لأ ؟ أمال إيه, مش هتروحى الشغل انهردة ؟
- لأ !
-هو كله لأ لأ ؟ يا بنتى ماتفهمينى بس جرى إيه
- مفيش يا ماما, مليش مزاج أروح الشغل النهاردة, أنا داخلة الأوضة ومش عايزة حد يزعجنى لو سمحتى
كانت ترد عليها دون النظر إليها مباشرة, كمن كان يخشى المواجهة, فهى تعرف كم كانت والدتها تستطيع أن تعرف ما بها بمجرد النظر فى عينيها, ومن بعدها تبدأ مرحلة الاستجواب, ويكفى لها أن تضمها إلى صدرها لتبوح لها بكل ما يدور بخلدها, لذا آثرت أن تتحاشاها حتى لا تضطر إلى الخوض فى كلام هى نفسها لا تجد له معنى حتى الآن.
تتركها متجهة إلى غرفتها, تملؤها الحيرة, وقد انتابها القلق على ابنتها, ولكنها فضلت أن تتركها وحدها حتى تهدأ وتأتى لتحكى لها بنفسها.
تدخل إلى الغرفة, تخلع حذاءها, تشد الوشاح من حول رقبتها بقوة وتقذف به بعيدا وتأخذ نفسا عميقا تسمع صوته وهى تزفره.
وقبل أن تنتبه كانت قد ارتمت بين جنبات السرير ولم تكن إلا ثوانٍ لتغط فى نوم عميق.
لم يكن قد مضى الكثير من الوقت على غفوتها, ساعة ربما او أكثر قليلا, ولكنها قد شعرت بانها كمن نام اليوم كله حين استيقظت على صوت جرس هاتفها المحمول. فى البداية أحست بأنه جزءا من الحلم, ولكنها أدركت بعدها بأنه يرن فى الحقيقة, فأخذت تتحسس مكانه باتباع مصدر الصوت, وأخيرا تمكنت من أن تجده ولكن بعد أن كان قد توقف عن الرنين.
تفتح عينيها مرغمة, تنظر إلى شاشة هاتفها لتجد 3 مكالمات لم يرد عليها أحد, وبينما هى كذلك إذ يرن هاتفها للمرة الرابعة, فيفلت منها فَزِعة, ثم تعود لتحمله مرة أخرى, تمعن النظر فى الاسم الظاهر على الشاشة "هو ؟"
تساءلت متعجبة, ترد بنبرة متعالية
-ألو . . .
ليأتيها الصوت من الناحية الاخرى حانقا, صاخبا, تستطيع أن تستشعر منه كمية الغضب الكامنة بداخله
-إنتى فين ؟
تبتسم فى داخلها, ولكنها تعاود لترد عليه ببرود
-فى البيت
بنبرة أكثر غضبا
-فى البيت ؟ بتعملى إيه فى البيت ؟ إنتى ناسية إن عندنا اجتماع مهم جدا النهاردة وسيادتك لازم تكونى موجودة؟ يلا قومى و. . . . .
لم يكد أن ينهى جملته حتى انفجرت فيه غاضبة, كانت تبدو عليها العصبية الشديدة, بحيث لم يستطع أن يستوعب ما جرى حقا, فلحظة كانت باردة وفى اللحظة التى تليها كانت قد استشاطت غضبا. لم يعهدها هكذا من قبل, فقد كانت دوما هى تلك المراة الدبلوماسية التى تتمنع بحنكتها وهدوء أعصابها حتى فى أصعب المواقف, لم تظهر يوما غضبا رغم ضيقها ومهما اشتد بها من البلاء, كانت خبيرة فى مواجهة الامور والخروج من الأزمات, وإذا كان الأمر يزعجها حقا كانت تصمت لفترة لا تكلم أحدا ولا تشكو شيئا, حتى لى, إلى أن تهدأ وتتمالك نفسها وتكون حينها قد اتخذت قرارا بما يجب عليها أن تفعله فيما تمر به.
لم أرها يوما على هذه الحالة, إذا فلا بد أن فى الأمر شيئا, وإلا لما كانت لتتغيب اليوم عن الحضور إلى العمل دون سابق إنذار, وبالتالى لم تكن لتهب فىَّ هكذا كالإعصار حتى إننى لم أفهم شيا من كلامها قبل أن تقرر تقطع المكالمة وتغلق هاتفها فى وجهى.
تضع الهاتف جانبا بعد أن تأكدت من إغلاقه هذه المرة, تنظر إلى الساعة لتجد انها لم تتخطى بعد العاشرة صباحا, فتسحب الغطاء وتلتحف به من أخمص قدميها حتى وجهها, كانت تريد الهروب من ذلك العالم من حولها, لم تكن تريد شيئا إلا الصمت.
أخذت تتقلب يمنةً ويسارا فى محاولة منها لتعود لتستكمل نومها مرة اخرى. كانت تشعر بالألم يعتصرها من الداخل, تئن وتتوجع, حتى شعرت بأن روحها تتآكل, حاولت أن تبكى فلم تستطيع.
شيئا فشيئا خفتت الأصوات بالخارج, وثقلت أجفانها, وسكنت روحها, لتعود وتغط فى سبات عميق, لم تصحو منه إلا فى اليوم التالى.
مضى بقية اليوم فى هدوء على غير العادة, كل فترة تدخل والدتها إلى الغرفة لتتفقدها, كانت تعلم بأن هناك خطب ما, ولكنها لم ترد أن تزعجها, وقد سمعتها فى الصباح وهى تتشاجر مع احدهم على الهاتف, تُرى من يكون ولم كانت تبدو عنيفة بتلك الطريقة.
توشك الشمس على المغيب, تدخل إليها وتسألها " انتى هتفضلى نايمة ؟ "
لا ترد, فتزيح الغطاء عن وجهها لتطمئن عليها, فتجدها هادئة مستكينة. تقف قليلا تتاملها, تمسح على رأسها وتقبلها, ومن ثم تخرج وتغلق الباب وراءها.
وعلى صوت أذان الفجر, تستيقظ من نومها, تقوم وتأخذ حماما ساخنا, لتطرأ على ذهنها تلك الفكرة . . .
>>> يُتبع
-سلمى عبدالوهاب-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق