الأحد، 15 يونيو 2014

إدمان . . .



كرائحةِ البُنِّ الممزوج بحبوبِ الحبَّهان، يُخالطه زهر القرنفلِ فى فنجان، حين تُداعبُ أنفى لتتسللُ إلى وُجدانى، تتصاعد أبخرتها إلى رأسى، فتجعلنى فى حالةٍ من الهذيانِ، أَسرحُ معها فى خيالاتى، وأُغمِضُ عينىَّ . . . فأنتشى.

                                          ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أتذكر لقاءنا الأول، حين كنت أجلس فى ذلك الركن المنزوى من المقهى، أرقب ما يحدث من حولى ولا شئ ليثير دهشتى، حتى رأيتك تدخل، تبحث عن مكان لتجلس فيه . . .
ظللت أشاهد عينيك تتفحص المكان لعلك تجد غايتك، وقبل أن تهم بالرحيل قررت أن ادعوك لتشاركنى طاولتى لحين الانتهاء من احتساء قهوتى، ولم أنتهى.

تعجبت كثيرا من نفسى حينها، فلم أعتد يوما على محادثة الغرباء -خاصة بهذا الشكل-، ولكن شيئٌ فيك قد جذبنى إليك، واستطاع أن يتغلغل إلى جسدى، كذلك المكان الذى يعبق بشذى القهوة الممزوجة بلونه الخشبى، وموسيقى الجاز، وكأنك قد أتيت ليكتمل بك المشهد، وتثير فى نفسى حالة لم أدرِ لها وصفا غير أننى فى تلك اللحظةِ، كنتُ سعيدة.


                                        ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كسيجارةٍ أَضُمها بين أناملى، أتلذذ بمسكتها وأنا أُقربها إلى شفتىِّ، لأُقَبِلُها . . . 
أُمسكُ بقداحتى لأشعلها، أرى لهيبها أمام عينىّ فيثير بداخلى شيئ أجهل هويته حتى الآن، ولا أجد لذلك تفسيرا، فلطالما وجدت فى لفافة التبغ تلك نوعا من الإثارةِ يجعلنى أشتهيها . . .
آخذ نفسا عميقا إلى الداخل، ثمَّ أُنَفثه فى بطء . . . فأنتشى.


                                       ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت تلك هى المرة الأولى، التى نجلس فيها جبنا إلى جنب، حيث تتلامس أكتافنا، بشكلٍ جعل الكثير من الحواجز تنهار فيما بيننا . . .
تقاربنا، تهامسنا، وضحكنا لأشياءٍ تخصنا، وتلاقت أعيننا لمراتٍ، فى لحظاتٍ كنا نسرقها خلسة، ينظر أحدنا إلى الآخر مُحَملا بكثيرٍ من المشاعر والأسئلة . . .   

خرجنا إلى الشارع نتمشى، تأخذنا أقدامنا إلى حيث لا ندرى . . . لم ننتبه كم من الوقت قد انقضى ونحن ننطلق من شارعٍ إلى آخر، وكأننا لا نريد لتلك الليلة أن ننتهى، آملين أن نتوه فى عالمٍ لنا وحدنا . . .

لم نتوقف عن الكلام وقتها، حتى وإن خان التعبير أحدنا، وجد الآخر يكمله وكأنه يعلم جيدا ما يدور بخلده . . .
كل شئٍ كان مثاليا حينها، حتى مرت تلك السيارة بجانبى، فإذا بى أحس براحة يده أسفل ظهرى تُبعدنى عن الطريق فى حركةٍ لا إرادية، لم يعلق أحد منا عليها، لينتابنى شعور غريب جعلنى أبتسم فى داخلى، كان يحمينى.


                                    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كأنغامٍ موسيقية فى ليلةٍ تجلس فيها وحيدا، تشدو بكلماتٍ لأغانٍ لم تعلم يوما أنك تحفظها . . . 
أبحث عن الهدوء، أشعر بأن رأسى يتآكل، أحاول أن أهرب بعيدا حتى لا أستمع إلى أفكارى اللعينة . . .
ألجأ إلى سماعاتى لأضعها فى أذنىِّ وأنعزل فى عالمى، لا شئٌ يزعجنى . . .

فقط أنا، وتلك الموسيقى . . .
أشعر بها فى رَوحى، تُراقصها . . . فأنتشى.


                                   ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان المكان يَعُجّ بالكثير من هؤلاء الذين نعرفهم ولا نعرفهم، نكره الزحام، نجلس متجاورين واضعا ذراعك خلف ظهرى فى محاولةٍ فاشلة لتضمنى . . .
كلانا يريد الرحيل، نفهم ذلك من نظراتنا، نريد ان نكون وحدنا . . . 
تهمس فى أذنى، أشعر بأنفاسك تتوغل إلى عظامى لتنتقل بسرعة إلى بقية أطرافى، فيقشعر بدنى . . .

صَوتُك.

ينفض الجميع من حولنا، حتى نصبح أنا وأنتَ، فقط . . .
تقوم لتجلس قبالتى، تغازلنى بنظراتك قبل كلماتك . . . أشيح بوجهى خجلا، فتضحك، تلك الضحكة أعشقها، أسمعها فتعجز الكلمات عن وصف مشاعرى . . .

أعود لأنظر إليك فأجدك محدقا بى . . . لأدرك أننا ولأول مرة نتلاقى، يرى أحدنا الآخر . . .
أنظر فى عينيك وأطيل النظر فيهما، أتأمل وجهك جيدا، صامتين، لا يريد أحدنا أن يفسد تلك اللحظة بكلام، كلامٌ مهما كان بلاغته فلن يقدر على أن يصفها . . . 

ذلك الخوف، الرغبة، السكون، الحزن، الفرح، كيف يمكن لتلك المشاعر أن تجتمع فى لحظةٍ واحدة . . .
فى تلك اللحظة فقط ، تيقنت من أننى أحبك.


                                  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كنسماتٍ باردة، فى ليلة صيفٍ عاتية، يضرب الهواء بجسدى . . . 
يتسرب إلى الداخل من أخمص قدمى، يسرى كالخدر فى أوصالى، فأرتجف . . .
تنميلٌ فى جميع الأنحاء، وبرودة تمنعنى من الإحساس بأطرافى . . .
شعور بالحرية، وكأننى أتلاشى لأختلط بذرات الهواء . . . فأنتشى.


                               ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كيف يمكن لكلماتك أن تلامسنى؟
أن أحس بكل كلمة تعانقنى, فأذوب بداخلها، وأغوص معها فى أفكار لا أعرف آخرها . . .

حُلوة . . .هى طريقتك فى قولها، تملك أسلوبا مميزا يجعل من الكلمات عادية كلمات لها مذاق خاص يجبرنى أن أتذوقها . . .
أما عن أفكارك، فهى تلك المرارة التى تضفى شيئا يعادل من حلاوتها، فيعطيها ذلك الطعم الذى أشتهيه . . .

كقطعةٍ من الشيكولاتة الداكنة.

نتحدث كثيرا، لساعات، قد تصل لأيامٍ . . . لا يمل أحدنا الآخر، لا نكرر الكلمات . . .
نتشاجر، ونتصالح، نحلل الكثير مما يدور برأسينا، نشكو، نتألم، نتساءل، نفرح، ندلى باعترافات، نبوح بكل شئ عن مشاعرنا، ننطق بكل جوارحنا، نحلم، ونسرح فى خيالاتنا، معا . . .

نصمت.

وقد يطول الصمت بيننا . . .
نحتاج إلى هدنة لنرتب فيها أفكارنا . . . 
ومن ثّمَّ نعود لنتجرع المزيد.

أكاد أنام، لأصحو على أمل أن أجد رسالة منك، ولكن جرعة صغيرة كتلك لم تعد تكفينى . . .
أجن حين تغيب، وحين تسكت، ولا تجيب . . .
أصبحت أشتاق إليك فى كل وقت من اليوم . . . 
أحتاج إلى كلماتك، وأحن إليها، أقرأها مرارا وتكرارا، حتى ألقاك ثانيةً.

آخذ من غيابك فرصة لأستطيع الشفاء منك، ولكن ما إن تعود لتكلمنى حتى أصاب بك كل ليلة . . .
ولا أعرف كيف استطعت أن تفعل بى كل هذا، أن تتوغل ببطءٍ إلى حياتى، حتى صرت جزءا لا يتجزأ منها، إن لم تكن فى كل شئٍ منها . . .

لا أعرف حقا، ولكننى لن أبالغ حين أقول بأننى قد أدمنتُك.


                                     ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


أجلس الآن فوق سور سطح بنايتى، أحتسى قهوتى، ممسكةً لسيجارتى، يمدانى ببعض الدفء فى تلك الليلة الباردة . . .
فى الخلفِ، تلعب بعض المقطوعات الموسيقية التى أعلم جيدا بأنك تحبها . . .
أتذكر كل شئ حدث بيننا، غريبة هى التفاصيل التى تنتبه لها حين يتملك الحزن منك، أشياء لم تطرأ على ذهنك لحظة حدوثها، ولا تعلم كيف تذكرتها، وكأنك قد قمت بتكبير الصورة فصارت أكثر وضوحا الآن.

كل شئ قد يبدو واضحا عداك.

كلها أشياء أحاول أن أستعيض بها عنك . . .
ولكن كيف لى أن أعوض غيابك بأشياءٍ تخصك، أن أهرب منك إليك، أن أراك متمثلا فى كل شئ . . .
كيف لذاكرتى أن تمحو كل ما سبق لتتح لنفسك مكانا يتسع بداخلى، لدرجة تجعلنى أنسى من كنت عليه قبل أن تحدث.

أجلس الآن فى محاولة بائسة لأن أبكى، وكأن عينى تأبى أن تذرف دمعا على نفسى، عقابا لها . . . 
يزداد الجو برودة، أشعر بها تنخر فى عظامى، أعرق، وأرتجف، وجعٌ يتملكنى، وضيق فى أنفاسى يكاد أن يخنقنى . . .
يبدو أنها أعراض الانسحاب.

لا زال عندى أمل بأنك ستعود لتمدنى بجَرعتى، تغيب تغيب ولا بد دوما أن تعود . . .
ولكننى أخشى، أن تطيل غيابك مرة، ولا تعود . . .
أعلم حينها بأننى لن أصمد طويلا . . .
سأموت.


#سلمى_عبدالوهاب

الاثنين، 9 يونيو 2014

وهى إيه اللى وداها هناك؟



يبقى ذلك السؤال هو الحجة التى يختبئ خلفها كل من يرى الأنثى كائنا دنيويا ثانويا لا يستحق الحياة مثله، لكل من تسول له نفسه بأن يبرر ما حدث لها من تحرش واغتصاب ويلقى باللوم عليها دون أدنى تفكير فى حقها كإنسان دون تمييز جنسها، وكأنها قد خلقت أنثى ليتم إهانتها والتعامل مع جسدها على أنه سلعة بخسة الثمن تستطيع أيدى أيا من كان ان تطاله، وكأنه حق مشروع عقابا لها لانها قد وُلِدت أنثى.

فى مجتمع مريض كهذا، كيف للمرأة أن تعيش فى سلام، ألا تحسب لخطوتها ألف حساب، كيف لها أصلا ألا تتبرأ منه وتعلن تمردها عليه، وكل ما فيه يشير لها دوما بأصابع الاتهام وهى الضحية الوحيدة هنا. فالأمر -رغم اعتراضى الشديد عليه- قد تخطى مرحلة الملابس المثيرة بكثير، إنه نوع من الهيجان الجنسى الذى قام بإعلاء كلمة الغريزة الحيوانية متنسايا طبيعته البشرية التى لا تفكر قبل أن تفعل، تلك الحالة التى أودت بالكثير والكثير من الفتيات فى الفترة الأخيرة فى مجتمعنا -المتدين بطبعه- ويبدو انها لا تزال، غير خائفة من أى قوانين أو عقوبات تم فرضها على المتحرشين، وكأنهم يقولون لهم و بالفُم المليان "طز"، فهؤلاء لن يردعهم مجرد قانون على الورق، قانون لا يزال يأخذ بالمسميات التقليدية لما يحدث ويسميه تعدى أو تحرش طالما لم يحدث "اغتصاب فعلى"، وكأن ما نلقاه من نظرات وإيماءات وإيحاءات وكلمات لا يكفى، أن يكون الخوف والقلق هو صاحبنا الأوحد فى كل خطوة نخطوها، أن نضطر إلى التغاضى عما يحدث خشية إثارة البلابل والمشكلات أو لأننا نعلم جيدا أننا لن نأخذ حقنا. لا، فلا بد أن ننال جانبا من اللمس وما إلى ذلك حتى يقتنعوا بأن ما تم ما هو إلا انتهاك لآدميتنا قبل أى شئ آخر.

أكتب هذا وأنا لا تفارق رأسى صورة فتاة التحرير من احتفالات تنصيب السيسى والتى تم تجريدها من ملابسها بصورة وحشية من قبل مجموعة لا اجد لها وصف مناسب حتى الآن، فالحيوانات لديهم نخوة عن هؤلاء، بدءا ممن اغتصبوها وأشدد على تلك الكلمة ومعناها، لمن وقف يشاهد ولا يفعل شيئا, وصولا إلى ذلك الذى وقف يصورها دون ادنى شعور بالخجل مما يفعل، فها هو يوثق اللحظة، يخبرها بأنه حتى إذا حاولتى أن تنسى ما حدث -هذا إذا فافترضنا أن باستطاعتها ذلك- فلن تنسى، فسيبقى ذلك الفيديو يذكرك دوما بما حدث، وكأن لا يكفيها ما حدث من ألم نفسى وجسدى، لا، فلا بد أن يبقى ذلك الجرح ينزف إلى الأبد.

إذا كنت أنا، وأنا أشاهد ذلك الفيديو وأعرف مسبقا ما حدث -رغم عدم توقعى لان يكون بتلك الوحشية- أصبت بالألم و "وجعنى قلبى"، وشعرت بالظلم والقهر، فما بالك هى، ترى ماذا ستكون ردة فعلها حين تستفيق، كيف ستكون لديها القدرة لمواجهة نفسها اولا، أن تمتلك من القوة لتعيش وتتعايش مع ما حدث، أن تجلس مع أهلها وذويها - هذا اذا افترضنا أنهم لن يقوموا بتحميلها مسئولية ما حدث والنظر لها بنظرة اللائم دائما-، أن تنزل إلى الشارع مرة أخرى دون خوف. أراهن على أنها ستتمنى الموت على حياة كهذه، بينما من اغتصبوا حقها فى الحياة -حتى وإن تم القبض عليهم- يتمتعون بحياة طبيعية، لا يعرفون معنى للألم النفسى الذى لم يسببوه لها فقط، بل لكل بنات جنسها، وأعتقد لكل من بقوا رجالا.

أنهى مقالى هذا وأنا أعلم جيدا -للأسف- أنه لن يكون أكثر من مجرد مقال آخر سيتم وضعه جنبا إلى جنب مع غيره من المقالات التى تتحدث عن تلك الظاهرة كما يحبوا أن يطلقوا عليها، ولكنها وباء وقد تفشى وبسرعة كبيرة للأسف، مرض ليس له من سن معين، ولا تاريخ ولا معلومة عن كيفية الإصابة به، وكغيره من الأمراض فى مصر، لا زلنا لا نجد له دواء، ولحين ما تجد له الدولة حلا، فلا أرى غير العنف حلا لعله يبث الرعب فى أنفس هؤلاء المرضى، الذين يروننا دائما كائنا أضعف، فلنريهم إذا ماذا يمكن لتلك الكائنات الضعيفة أن تفعل حين تغضب وحين تثور فى سبيل ان تأتى بحقها، فإذا كان القانون ودولته لا يستطيعون حمايتها، فلا تلوموها إذا حين تقوم هى بحماية نفسها.

#سلمى_عبدالوهاب

المتابعون