الأربعاء، 17 يوليو 2013

كليات الإمَّة

" خلص بس انت المدرسة وخش الجامعة اللى نفسك فيها علشان تشتغل الشغلانة اللى انت عاوزها بعدين تتجوز بقى وتخلف وتموت "

بنظرةٍ إلى ما سبق, ستجد أننا جميعا أحد هذه الأجيال التى تربت ليكون أسمى أهدافها فى الحياة هو الشغل والجواز, وكأن الحياة بدون هذين العنصرين مجتمعين معا قد صارت بلا جدوى وبلا معنى, وبحديثى عن الأجيال لا أقصد من هم فى العشرين والثلاثين, بل على العكس فأنا تقريبا أقصد كل من لا زال حيا يرزق على وجه كوكب الأرض, فنحن جميعا أجيال ولدت لتُربَّى بلا هدف, وفى اعتقادى الشخصى فأنا أعتبر أن من عاصروا عصر محمد على كانوا آخر الأجيال المحترمين, فأياميها كان العلم ذا قيمة, والوطن ذا قيمة, وإعداد جيل من القادة ليتولوا امور البلاد فى ظل الغزو والحروب من بلاد الفرنجة كان من أهم أسباب تسليح أبناء هذا الشعب بكل ما يؤتونه من قوة ليكونوا قدر المواجهة وعلى اتم الاستعداد لخوض المعركة. ولا أعلم من بعدها ما الذى حدث للتدهور أحوالنا إلى الحال الذى وصلنا إليه الآن, لتصبح أقصى طموحاتنا هو التخرج فى الجامعة من إحدى الكليات المرموقة, والسعى خلف وظيفة تدر دخلا وفيرا, ومن ثم البحث عن الشريك الآخر, لنعود مرة أخرى إلى نقطة البداية.


وبالعودة إلى نقطة البداية, سترى اننا جميعا قد نشأنا بنفس الطريقة مع بعض الاختلافات الطفيفة التى مع الوقت ستندمل بمجرد الوصول إلى آخر سنين المدرسة, فأنت لم تقضِ سنين المدرسة إلا من أجل التأهب لمعركة السنتين الأخيرتين من المدرسة, بمنطق " اتعب السنتين دول عشان ترتاح بعدين ", ولا اعلم من العبقرى الذى صدرت عنه تلك المقولة الحمقاء وكأنه يشبه الثانوية العامة أو ما يعادلها من الشهادات الأخرى بأنها أصعب ما قد يواجهه الطالب فى حياته, مما يوحى له أنه بذلك يمهد لحياة كريمة وانه لو فشل فسيظل تعيسا لبقية عمره, وإن لم نلقِ اللوم على صاحب تلك المقولة, فاللوم الحقيقى يقع على عاتق هؤلاء الأهالى الذين يحاولون جعل أولادهم يشعرون بأن الثانوية العامة هى التى بها يتحدد مصيره فى الحياة, وأنها ما تؤهله للخروج من المدرسة التعليمية للدخول إلى مدرسة الحياة, والحقيقة أنها لا تؤهلة حتى للوقوف فى طابور العيش. فالمنافسة فى ظل نظام تعليمى فاشل هى أشبه بتمرينات الجرى فى المكان, والأشطر هو من يستمر لآخر نفس, فكلما كان حفظك للمادة العلمية اكثر, كلما كانت فرصتك للحصول على مجموع أعلى, كلما كانت فرصتك للالتحاق بإحدى كليات القمة.


لا أعلم لماذا تنتابنى دوما نوبة من الضحك كلما طرق على أذنى لفظ " كليات القمة ", بغض النظر عن "قمة" الطبقية والعنصرية التى قد تلحظها فى ذلك اللفظ, والذى للأسف الشديد قد جعل من الكليات الأخرى " دون القمة " يُنظر إليها بنظرة أنها مصير كل من فشل, ولكن لا يهم, فالمضحك الحقيقى فى الأمر هو السبب فى تلك التسمية نفسها, والتى إلى الآن لا اعلم سرها, فعلى اى أساس يتم اختيار كليات القمة, وما الذى قد جعلها كذلك, فإذا كان الامر يقتصر على أهميتها القصوى للنهضة بالبلاد فلتكن إذا, ولكن للأسف فقمتها تقتصر فى علو درجات من أرادوا الالتحاق بها, ليس إلا, والذى يزيد من فكاهة ذلك الامر ان كثيرا ممن التحقوا بتلك الكليات كان " استخسارا للمجموع " أيضا ليس إلا, فأصبح الأمر وكأننا نحن من نُبقى على وجود تلك الكليات فى القمة, ومن الطبيعى جدا ان يحدث ذلك الشئ فى ظل تعليم يُنشئك "حافظ مش فاهم".


وبالحديث عن كليات القمة ستجد أن تلك الكليات وعلى مدار السنين الاخيرة لم تُخرج لنا ما يدل أنها فى القمة, فكليات الطب بتعليمها العقيم والقديم, ما هى إلا تضييع لسبع سنوات من العمر لا تتعلم فيهم شيئا, لتبدا فى التعلم " بجد " منذ وصولك لمرحلة الامتياز, لتكتشف انك لا تفقه شيئا, وتبدا فى التعلم من أول وجديد, لتخرج أجيالا لا تستطيع مداواة مريض إلا بعد سنوات وسنوات, وذلك بعد أن يكونوا قد هلكوا وفقدوا طاقة الشباب الكامنة بداخلهم وتحولوا إلى آلات مبرمجة على بعض العمليات, أو بعض الكلمات إذا قاموا بمهمة التدريس لأطباء المستقبل بنفس طريقة التعليم العقيم الذى يعتمد على " مين هيحفظ اكتر عشان يجيب مجموع اكتر ".

لننتقل إلى إحدى الكليات الأكثر عملية وهى الهندسة, فبعد سنوات من التعليم الذى يحوى الكثير من الفراغ ستجد أنه وبعد ان سهر هؤلاء الطلبة على مشاريع التخرج التى قد تصبح ذات عائد وفائدة للبلاد, قد وضعت مثلها مثل بقية الأبحاث والمشاريع فى مخزن المشاريع وتحطيم الطموحات, لتخرج إلى مجال العمل وترى أنه ليس كما هيئوه لك قبلا, والنتيجة اننا وفى ظل القرن الواحد والعشرين لم نرى بناء معماريا واحدا أذهلنا او لفت الانظار إليه كما نرى فى بقية الدول العربية والغربية.

ومن الطب والهندسة إلى السياسة والاقتصاد, لتتحطم آمال كل من التحق بها ليصبح سفيرا لبلاده ليعمل بأى مجال آخر لا يمت لتلك الدراسة بصلة, فما لم تكن معك ال" واسطة " للعمل فى السفارة فكأن لم تكن, وكل ما يمكنك فعله حينها هو التباهى بإنك خريج سياسة, أو الفشخرة على زملائك بالعمل من تجارة إلى إنك خريج اقتصاد. وحقيقة لا اندهش كثيرا من هذا, ففى ظل اوضاع البلاد السياسية والاقتصادية " الخربانة " سنعلم أن تلك الكليات لا تدرس شيئا باستثناء فن الكلمة, وإن كنت أشك فى هذا بعد الاحداث الاخيرة والتى أثبتت فشل هؤلاء الساسة فى تولى امور البلاد.

لنذهب ونلقى نظرة على كليات الإعلام, ومن الغريب ان كثيرا من الاهالى ينظرون إليها نظرة أنها معهد فنى للرقص الشرقى, وكان كل من يلتحقون بها سيخرجون ليصيروا راقصين وراقصات, وليسوا إعلاميين مسئولين عن إيصال الخبر إلى الناس. وعلى الرغم من اختلافى الشديد معهم فى تلك النقطة, إلا ان الفترة الأخيرة قد أظهرت لنا كم أن إعلامنا داعرا منافقا سليط اللسان, فكلهم سواء, باستثناء بعض الوجوه, لتبقى نظرية أن كل من هب ودب يستطيع ان يعمل فى مجال الإعلام, فالحصول على شهادتها لم يعد هو تذكرة الدخول, وانت وشطارتك بقى.


وإذا كان هذا ما أنبتته لنا كليات القمة, فلم لا نقوم بطفرةٍ إذا ونغير من وضع تلك الكليات وتبديلها بأخرى ربما جئنا بنتيجة مختلفة, ليس لاقتناعى بذلك المسمى, ولكن بما اننا سنحتاج إلى الكثير من الوقت لنغير من ذلك المفهوم, فأرى ان نقوم عليه بتعديل بسيط,
ففى ظل دولة تفتقر إلى العدل والقانون, نجد أن كليات الحقوق تحصل على مجاميع ضعيفة للغاية, فإن كان الامر مقتصرا على درجات وان من يستحق ان يكون فى القمة يجب ان يكون من الشطار, فلا اجد كلية أحق من كلية الحقوق بها, مع العلم ان كلية الحقوق قديما كانت هى اعلى الكليات حقا, وليس من حيث فكرة المجموع ولكن من حيث أهميتها للارتقاء بمستوى البلاد.
لتنضم إليها فى أعلى القائمة كليات العلوم, فى دولة كانت يوما منبرا للعلوم حيث كنا نصدرها إلى كل الدنيا, وتليها فى الأهمية كليات التربية واللغات والآداب على حد سواء, فى ظل دولة شبابها يحلف ب " ولاهى ", آه واللهِ.


وفى النهاية, احب أن أوجه كلمة إلى عزيزى خريج الثانوية العامة, فطوال تلك السنوات الطويلة من التعليم أنت فى الحقيقة لم تتعلم شيئا, ولا تعتقد أنه بدخولك الكلية ستتعلم الكثير, وإنما أنت فقط من يعلم نفسه, ويرتقى بكيانه مهما كانت ماهية دراستك, فقمتك فى تحقيقك لذاتك, ودعك من وهم كليات القمة, فليس لها من وجود, ولا تنصت لمن يوهمك بان ذلك حتى يصبح لك مكانا مرموقا فى المجتمع, فانت وحدك من يصنع ذلك المكان, أما إن أردت أن تبطل عقلك وتستمع إلى كلامهم, فهنيئا لك حصولك على المجموع لتلتحق بإحدى كليات الإمَّة ومبارك علينا جيلا جديدا من الإمَّعة.




                                                                                                      -سلمى عبدالوهاب-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون