وعلى صوت أذان الفجر, تستيقظ من نومها, تقوم وتأخذ حماما ساخنا, لتطرأ على ذهنها تلك الفكرة.
تخرج لتقف فى مواجهة النافذة المفتوحة, بينما لا تزال قطرات الماء تتساقط من خصلات شعرها المموجة المبللة, تشعل سيجارة وتنفث دخانها فى الهواء البارد الذى يضرب بوجهها. تمسك السيجارة بيد, بينما تضم يدها الأخرى إلى صدرها, تلقى بنظرة طويلة المدى إلى الأسفل, ليفاجئها جرس ساعة المنبه كما اعتاد أن يدق فى تلك الساعة من كل يوم.
تقذف بالسيجارة خارجا, وتغلق الستار, ومن ثم تتجه إلى الدولاب لاختيار ما ترتديه, فتضع معطفا أسود من التويد, وتحليه بوشاح قرمزى اللون, مرتدية حذاءها الجلدى وحقيبتها الcross. تقف أمام المرآة قليلا تحاول أن تلملم شعرها لتقرر فى النهاية أن تتركه منسدلا أسفل ظهرها, ومن ثم تتجه خارج الغرفة وتصفع الباب من خلفها.
-صباح الخير يا حبيبتى
-صباح الخير يا ماما, معلش مستعجلة
-مش هتفطرى يعنى ؟
-لأ مش هالحق, يلا سلام
تنزل الدَرَج مُهرولةً, وتقف فى الشارع منتظرة.
- تاكسى ؟
-على فين ؟
-محطة مصر لو سمحت !
تصعد إلى السيارة, وتترك الشباك مفتوحا لتشعر بالهواء يتغلغل إلى صدرها, تأخذ نفسا عميقا وترتسم على وجهها ابتسامة صافية استطاعت أن تشع النور فى ملامحها, ابتسامة ربما كانت قد نسيتها منذ زمن.
لم يمض الكثير لتجد نفسها امام المحطة, تترجل خارج السيارة, وهناك عند شباك التذاكر تقف
-تذكرة لاسكندرية لو سمحت!
تصعد إلى القطار, وتتجه إلى مقعدها الكامن بجوار النافذة, تسمع الصافرة معلنة بدء تحرك القطار, وتبدأ الرحلة.
ظلت طوال الطريق مُحلقة بالخارج, تستمع إلى صوت احتكاك عربات القطار بالقضبان الحديدية, لم تنتبه إلى أى مما كان يحدث حولها, فقط تنظر وتفكر فى آخر مرة سافرت فيها إلى الأسكندرية, كان ذلك منذ زمن.
تفكر فى آخر مرة قامت بشئ كانت تود القيام به حقا, شئ أرادته, شئ أحبته. حقيقةً هى لا تتذكر, ولا تعرف لماذا, ولكن يبدو أن كل آخر مرة فى حياتها كان قد مضى عليها الكثير من الوقت, بينما كانت منهمكة فى عملها.
وعلى ذكر العمل, تتذكر هاتفها المحمول فتخرجه من حقيبتها, تنظر إلى سجل المكالمات لتجد رقمه مدونا فى مكالمات البارحة. تحاول أن تستعيد بعضا مما قالته فى تلك المحادثة فلا تستطيع, كل ما كانت تذكره انها توقعت اتصاله بها عنها, لا ليتحدث عن العمل, فلم تتمالك أعصابها وصرخت فيها غاضبةً.
ليتنى كنت أتذكر ما قلته له حتى أستوعب حقيقة ما يحدث لى الآن.
تغلق هاتفها مرة أخرى, وتسترسل فى أفكارها. كم كانت تكره ألا تكون على دراية بما يجول بداخلها, ألا تعى حقيقة مشاعرها.
هل تحبينه ؟ لا لا كفاكِ هراءً, إذا لماذا غضبت منه حينها ؟ فربما كنتِ تكنين له بعض المشاعر التى لا تدرين عنها شيئا, وربما كنتِ تعلمين ولم تتجرأى يوما على البوح بها حتى لا تضطرى إلى التعلق به خشية أن تضطرى إلى أن تتخلى عنه.
لم تنتبه إلى الساعة إلا والقطار يتوقف. تحمل حقيبتها وتتجه إلى الخارج.
لدقائق تقف متأملة الشارع, السيارات, الناس, منتشية ببرودة الهواء, تستنشق رائحة البحر, تغمض عينيها وتفرد ذراعيها, لأول مرة كانت تشعر بانها حرة.
لحظات وتبدأ السحب بالتكتل فوقها, لتنهمر الامطار بغزارة, فتضفى على المشهد جوا حميميا للأسكندرية فى الشتاء. كانت سعيدة, فرحة, أخت تضحك منطلقةً فى الشوارع, تتجول بين هنا وهناك, حتى انقضى النهار سريعا لتجد نفسها وقد قادتها قدماها إلى ذلك الشاطئ الذى اعتادت القدوم إليه وهى صغيرة. وقفت تتامل غروب الشمس ولمحة الحزن فى عينيها, تعلم ان تلك اللحظة لم تكن إلا النهاية ليومٍ لم تكن تريد له أن ينتهى وهى على علمٍ بانها ستعود فى الغد إلى ما كانت عليه, مكبلةً بقيود الحب, والعمل, والمجتمع.
مجتمع به أناس يتكلمون بلغةٍ غير تلك التى تتحدث بها, يخضعون أنفسهم لتقاليد هم مبتدعوها, ويجرمون غيرهم بقوانين هم صائغوها.
وعملُ أبغضه, ولا اجد لنفسى شيئا فيه ومع ذلك فأنا مستمرة به عملا بتلك المقولة " حب ما تعمل حتى تعمل ما تحب", ولا ادرى حقا من ذلك الأحمق الذى ألفها وجعل الناس منها حجة للاستسلام للامر الواقع, فكيف بى ان اجد ما أحب وأنا غارقة فى وحل ما أكره.
حب ؟ بل هى مجرد مشاعر أكاد لا أعرف عنها شيئا, وبالرغم من ذلك تؤرقنى, تقيدنى, ولا اعرف كيف التخلص منها.
"فماذا تنتظرين إذا ؟ اللحظة المناسبة ؟ أنتِ تضحكين على نفسك, فلا يوجد فى الحقيقة ما يسمى باللحظة المناسبة، ولكم أهدرنا من العمر زمنا فى انتظارها، ومع ذلك فإننا نهوى اتخاذها عذرا مناسبا لكل ما نتعذر عن القيام به، وسيلة لعدم الإقدام على خطوة ما نخشى ما قد يحدث على إثرها، دافعا للتخلى عن أشياء لطالما حلمنا بها ولم نملك من الشجاعة ما يكفى لأن نحارب من أجلها."
فجأة يصبح الجو أكثر برودة, فتلف الوشاح حول جسدها بقوة, تنظر إلى الساعة لتجد انها قد تخطت العاشرة, فتخرج هاتفها وتفتحه لتتصل بوالدتها وتطمئنها, وما إن ردت عليها حتى صاحت فيها
- انتى فين كل ده ؟ وموبايلك مقفول ليه طول اليوم ؟ كنت هاتجنن عليكى, واتصلت بيكى فى الشغل فالولى ماجاتش أصلا
انتظرت حتى تفرغ كل ما بداخلها من غضب, وبدأت نبرتها فى الهدوء لتقول لها
-أنا فى اسكندرية, وماقلتلكيش عشان كنت عارفة انك مش هتوافقى, بس اتطمنى انا كويسة, راجعة بكرة الصبح ماتقلقيش عليا
قالتها ولم تنتظر ردا منها, لتغلق هاتفها وتذهب باتجاه وسط المدينة. كانت تتضور جوعا, فذهبت لشراء شيئا لتأكله.
ظلت تمشى إلى أن أنهكها التعب, ولم يكن عندها علم عن كيفية قضائها لما تبقى من ساعات الليل, فاتجهت إلى محطة القطار لتجلس هناك, وأخذت تتابع القلة ممن كانوا متواجدين فى ذلك الوقت, تدقق فى وجوههم وتتساءل كيف ستؤول بهم مصائرهم.
من فرط التعب, غفت قليلا لتستيقظ على الكثير من الأصوات من حولها, تفتح عينيها لتجد أن المحطة قد بدأت تدب فيها الحركة.
تقوم لتشترى كوبا من القهوة, وتجلس تشربها فى انتظار القطار.
فى رحلة العودة لم تستطع إلا أن تنام, لتصحو عند بلوغها القاهرة.
تخرج من المحطة فى اتجاهها إلى الشركة التى تعمل بها, وهناك تدخل لتجده جالس إلى مكتبه يرتشف القهوة, تضع ورقة بيضاء على المكتب, فينظر إليها متسائلا متعجبا
-إيه دى ؟
-استقالتى !
-نعم ؟ ليه ؟
-عشان انا مكانى مش هنا, وعمره أصلا ما كان هنا, انا طول عمرى بحب التصوير والإخراج, مش فاكرة امتى ولا ازاى شلت الفكرة دى من دماغى و وافقت إنى آجى واشتغل هنا, بس خلاص أنا قررت مش هاعمل تانى حاجة انا مش عاوزاها, كفاية اوى لحد كده
تمشى باتجاه الباب, تاركةً إياه مذهولا بصمته لا يعرف ماذا يقول لها, وبينما هو كذلك فإذا بها تعود وتلتفت له وتقول له بابتسامةٍ غريبة
- آه وعلى فكرة, انا تقريبا بحبك, مش متأكدة بالظبط بس انا عارفة إنى بَغير عليك جدا وانك بتوحشنى جدا,
بس انا زهقت ومش ناوية أضيع وقتى فى إنى افضل مستنية إنك تنطق أو إنى أتأكد من إنك بتحبنى او لأ, والحقيقة بقى انى بعد ما قلتها دلوقتى مابقتش مهتمة إنى أعرف, المهم إنى قلتها عشان مافضلش مستنية, عشان ماكملش حياتى كلها فى انتظار.
>>> تمت.
-سلمى عبدالوهاب-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق